آثار الكويت قبل الميلاد
د.سيد علي إسماعيل
ــــــــــــــ
في وقتنا الحاضر ينظر الجميع إلى دول الخليج العربي نظرة إبهار؛ بسبب تطورها السريع، ومظاهر تقدمها العمراني والتكنولوجي في جميع المجالات. هذه النظرة – رغم إيجابيتها – إلا أنها تسلب من هذه الدول أصالتها الحضارية القديمة، وتاريخها العريق؛ وكأن هذه الدول لم تتقدم إلا مؤخراً بسبب عوائد البترول المالية الضخمة. والحقيقة أن هذه الدول هي في الواقع تُمثل أصل الحضارة الإنسانية ومنبعها!! فآدم عليه السلام – أبو البشرية – عاش فيها، وبدأت البشرية تنمو وتترعرع بين جبالها ورمال صحرائها، وتاريخ العرب بدأ فيها، ناهيك عن الشعر العربي الذي أرخ لجميع مظاهر الحياة العربية منذ العصر الجاهلي، وهو شعر تمّ نظمه في وديانها وبين جبالها، وكما قيل فإن (الشعر ديوان العرب). وإذا كانت هذه الحقائق معروفة نظرياً من خلال التاريخ المكتوب – دينياً وتراثياً وإنسانياً وثقافياً – فإن شواهد كثيرة دلت على ذلك! وهذه الشواهد عبارة عن آثار قديمة تمّ التنقيب عنها، ومن ثم جمعها، وكان لابد من عرضها لتكون شاهداً حياً على هذه الحضارات المندثرة، ويُعد متحف الكويت خير دليل على هذه الحضارات.
المتحف وبدايته
بدأ تكوين هذا المتحف في صورة متواضعة، حيث جُمعت مقتنياته الأولى من قبل بعض الهواة من الطلاب المهتمين بالآثار في الكويت، وهذه الهواية متأصلة في وجدان الخليجيين بصورة مميزة جداً - وقد شاهدت بنفسي متاحف منزلية خاصة عديدة في سلطنة عُمان، ودولة الإمارات العربية، ودولة قطر منذ عدة سنوات - وهذه المقتنيات الكويتية الممجموعة من قبل الهواة والطلاب، اهتم بها وطورها وزاد من عددها المرحوم الوزير الأستاذ عبد العزيز حسين، كما اهتم بإرسال المبعوثين لدراسة الآثار وتنظيم المتاحف وعلى رأسهم طارق السيد فخري، الذي ابتعث إلى إنجلترا، ولما عاد تقلد منصب رئيس قسم الآثار والمتاحف في الكويت.
وفي يوم الثلاثاء الموافق 31/12/1957 افتتح الشيخ عبد الله الجابر الصباح – مدير دائرة المعارف (وزير التربية والتعليم) - متحف الكويت رسمياً، وكان مقر المتحف قصر الشيخ خزعل - وتحديداً ديوانيته - الذي اشتراه الشيخ عبد الله الجابر، وأهداه إلى دائرة المعارف. وهذا الافتتاح استتبعه إصدار عدة قوانين لحماية الآثار؛ فتحمست بعثات الحفريات الأثرية من أجل المزيد من اكتشاف الآثار المجهولة في أرض الكويت، لما لهذه الإمارة من موقع استراتيجي لقربها من حوض الرافدين الذي شهد حضارات عريقة، كذلك وقوعها في طريق القوافل البحرية القادمة من الهند وبلاد شرق آسيا، ناهيك عن جزيرة فيلكا وتعرضها لحملات جيوش الإسكندر، واتصال الإمارة بحضارة فارس. هذا الموقع وتاريخه ألهب حماس البعثة الدنماركية - برئاسة مستر كلوب - فكشفت يوم 10/2/1959 عن آثار دالة على اتصال الخليج بالفينيقيين وغيرهم. كذلك تم اكتشاف آثار تدل على أن (كاظمة) هي أول مدينة عربية سكنتها قبيلة أياد العربية، وهذه المدينة وقعت فيها معركة السلاسل المعروفة سنة 630م، التي انتصر فيها خالد بن الوليد. كذلك تم الكشف عن قبور قديمة في الجهراء، وهي قبور تعود إلى العصر الجاهلي وحروبه الكثيرة.
ظل متحف الكويت في مكانه بقصر الشيخ خزعل، منذ افتتاحه عام 1957م وحتى عام 1976م، حيث نُقلت محتوياته إلى أشهر وأقدم البيوت التراثية في الكويت وهو (بيت البدر)؛ لانتقال تبعية المتحف من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الإعلام. ثم نُقلت محتوياته مرة ثالثة إلى مقره الحالي في شارع الخليج العربي عام 1983. والملاحظ أن كل انتقال كان يتبعه زيادة في المقتنيات، وتطوير في المعروضات، وبالتالي زيادة في المعلومات، واكتشاف جديد لحقائق تاريخية كانت مجهولة. ومثال على ذلك أن أغلب الاكتشافات الأثرية وُجدت على الشريط الساحلي لإمارة الكويت، مما يدل على أن الحضارات التي وُجدت كانت متصلة بالبحر سفراً وتجارة وصيداً وحياةً .. إلخ، خصوصاً في مناطق: الصبية، وبرقان، وتل الصليبخات، وبهيتة، وكاظمة، ووارة، والقرين، ووادي الباطن، وأم العيش، وجزيرة عكاز، وجزيرة أم النمل، وجزيرة فيلكا. والآثار المكتشفة في هذه المناطق يعود تاريخها إلى أواخر العصر الحجري، أي ما بين 8000 إلى 5000 سنة قبل الميلاد، وهناك آثار أخرى تنتمي إلى عصور وحضارات متنوعة كما سنرى.
ومقتنيات المتحف من الآثار المتنوعة، اجتهدت الدولة كثيراً في سبيل اكتشافها وجمعها، حيث قامت باستقدام ودعوة الكثير من البعثات العلمية والأثرية العالمية والعربية، ووفرت لها كل الدعم الفني والمادي والمساندة الوطنية من أجل الكشف عن المزيد من الآثار المُعمقة لتاريخ الإمارة. كما اهتمت الدولة بابتعاث وتدريب الشباب الكويتي، ليكون الكادر الوطني المُتحمل لهذه المهمة مستقبلاً. وقد بدأت هذه المهمة منذ قدوم البعثة الدنماركية، التي عملت في مواقع تل سعد، وقصر الحاكم، ودار الضيافة منذ عام 1957، وبعثة جامعة جون هوبكنز الأمريكية عام 1972، والتي أكملت أعمال البعثة السابقة في المواقع نفسها. ثم جاءت بعثة جامعة فينسيا الإيطالية عام 1976، وعملت في موقع تل الخزنة، ثم جاءت بعثة معهد واشنطون عام 1982، وبعثة معهد بيت الشرق بليون من فرنسا من عام 1983 إلى 2004، وعملت في مواقع: تل الخزنة، وتل سعيد، والمعبد الحجري، والمعبد البرجي، والقصور. أما البعثة الخليجية المشتركة فعملت عام 2001 في موقع سعيدة الإسلامي، والبعثة الكويتية عام 2002، وقامت بأعمال ترميم مدينة دلمون، ثم البعثة الكويتية السلوفاكية عام 2004، وعملت في موقع الخضر. ثم توالت البعثات بعد ذلك، ومنها: البعثة البولندية عام 2007، والبعثة اليابانية عام 2007، والبعثة الدنماركية عام 2008، وأخيراً البعثة الأردنية المشتركة.
العصر الحجري
إذا نظرنا وتتبعنا مقتنيات المتحف المتنوعة في العصور المختلفة، سنجد من العصر الحجري متحجرات عظمية لحيوانات منقرضة - وُجدت في منطقة الصبية - أرخها العلماء بـ 16 مليون سنة، وتوجد قطعة واحدة من هذه العظام معروضة في المتحف. وتُعدّ هذه القطعة أقدم قطعة أثرية يُعثر عليها في الكويت، ويُرجح العلماء أنها لحيوان زاحف من الحيوانات الضخمة المنقرضة. وهذه القطعة المحفوظة في المتحف ما هي إلا عينة من عظام هذا الحيوان، حيث نقلت بقية العظام إلى خارج الدولة ليتم فحصها من قبل العلماء والمتخصصين في هذا المجال في معامل ومختبرات خاصة بهذا النوع من العلم.
وبسبب عظام هذا الحيوان انتشر اعتقاد بين المتخصصين - في الكويت – بوجود أحد الأنهار الكبرى الجافة، والمعروف حالياً باسم (وادي الباطن)، ويُقال بأنه جف بسبب المتغيرات المناخية منذ مائة ألف سنة قبل الميلاد. وهذا الوادي يشتمل على عظام كثيرة لحيوانات أخرى منقرضة، وأنواع من النباتات المجهولة. وإذا كانت عظام الحيوان المنقرض سبباً مباشراً في شيوع هذه الأقوال والمعتقدات، فمن اليسير التأكد منها بواسطة جهود العلماء والباحثين والبعثات الأثرية لدراسة المنطقة دراسة متأنية، وإلقاء الضوء عليها وعلى تاريخها وآثارها وحيواناتها المنقرضة ونباتاتها الغريبة.
ومن العصر نفسه تمّ العثور على أدوات للصيد عبارة عن سكاكين ومكاشط وشفرات مصنوعة من حجر الصوان، وكذلك وجدت البعثات في موقع العبيد – نسبة إلى حضارة العبيد (4500 – 3500 ق.م) - بعض السهام الصوانية، وأثقال الشباك، والمدقات والمساحين والفؤوس والهراوات الحجرية، تعود إلى العصر ذاته. والجدير بالذكر إن الموقع الوحيد المُكتشف في الكويت المنتمي إلى حضارة العبيد، هو (جزيرة طبيج)، وهو الموقع الدال على استيطان البشر في الكويت، وبداية اتصالها الحضاري بالحضارات الأخرى. واللافت للنظر أن المكتشفات الأثرية في هذه المنطقة تؤكد هذا الاستيطان واتصال المنطقة الحضاري بالحضارات الأخرى، وذلك لأن الأدوات المستخدمة هي أدوات تُستخدم في الحياة اليومية، دليلاً على الاستقرار واستمرار الحياة البشرية المجتمعية في هذه المنطقة.
والملاحظ أن منطقة الصبية كانت نشطة بصورة لافتة منذ 5000 سنة قبل الميلاد، حيث وُجد بها آثار تعود إلى هذه الفترة، منها: نموذج لأقدم قارب مصنوع من الطين في العالم، وقطعة دائرية فخارية مرسوم عليها قارب ذو دفتين، ونصف إناء فخاري ذي رسومات هندسية، ومجموعة من الشقفات الفخارية المزخرفة هندسياً، ومجموعة من المسامير الطينية، ناهيك عن مجموعة الأواني الفخارية المزخرفة في حالة جيدة جداً من الشكل والاكتمال.
والملاحظ أن أغلب الاكتشافات الأثرية في منطقة الصبية – والتي تعود إلى العصر الحجري – هي عبارة عن أدوات يستعملها الإنسان في معيشته وحياته الاجتماعية، بما فيها من ملامح اقتصادية وتجارية. والاعتقاد الأرجح أن هذه الأدوات تعود إلى جماعات بشرية كانت تمرّ في هذه المنطقة بصورة موسمية للاسترخاء والراحة، حيث لم تكتشف البعثات الأثرية أية شواهد استيطانية في هذه المنطقة تعود إلى العصر الحجري. وربما يحدث في يوم من الأيام العكس، ويتم كشف أحد المواقع الاستيطانية، فتكون الكويت شهدت وجوداً لحياة بشرية مستقرة في العصر الحجري.
العصر البرونزي
إذا كانت منطقة الصبية هي نموذج الحضارة في العصر الحجري، فإن جزيرة فيلكا كانت صنوها في العصر البرونزي (2400 – 1200 ق.م). ففي هذه الجزيرة وجدت البعثات العلمية المختلفة مجموعة كبيرة من الآثار الدالة على نهضتها في العصر البرونزي، ومنها: مجموعة من رؤوس الرماح من النحاس الأحمر والبرونز، ورأس صولجان من البرونز، وتمثال لضفدع من البرونز، ومجموعة من الصنابير البرونزية، ومجموعة من الملاقط البرونزية، ومجموعة من الأختام الدلمونية المستديرة المصنوعة من الحجر الصابوني، والرقيم الحجري ذو الكتابات المسمارية، ودمغات الأختام، والختم الدلموني المستدير الذي يُعد أكبر ختم في العالم تم اكتشافه حتى الآن، هذا بخلاف الأختام الجرسية والمربعة والمستطيلة التي تعود إلى العصر البرونزي ذاته. أما الأختام المميزة المكتشفة في هذه الجزيرة، فمنها: الختم الدلموني المصنوع من العقيق والمحاط بإطار ذهبي، وختم آخر جعراني الشكل، ومجموعة من الأختام المتنوعة المصنوعة من الأحجار الكريمة. هذا بالإضافة إلى اكتشاف ماسورة ذهبية ذات زخارف غائرة، ومجموعة من الخرز المصنوع من الأحجار الكريمة يعود تاريخها إلى العصر البرونزي أيضاً.
والملاحظ أن أغلب الآثار المكتشفة في جزيرة فيلكا، تعود إلى حضارة دلمون، التي شملت فيلكا والبحرين والساحل الشرقي لجزيرة العرب. وتتميز جزيرة فيلكا بوجود مستوطنة - مُكتشفة من قبل البعثات - يعود تاريخها إلى 2000 سنة ق.م – تبعاً لتقدير العلماء – وبناءً على الآثار المكتشفة بها، أثبت العلماء أن جزيرة فيلكا، كانت أحد المراكز الفرعية المهمة في حضارة دلمون، التي مركزها الرئيس البحرين؛ حيث لعبت فيلكا دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي والتجاري وكانت حلقة الوصل والاتصال بين حضارات مختلفة، مثل: حضارة بلاد الرافدين، وحضارة السند، وهذا بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي، بالإضافة إلى خصوبة تربتها ومياهها الجوفية العذبة، وموانئها الطبيعية المهيئة لحماية السفن عند هبوب الرياح والعواصف، وهذه المميزات لجزيرة فيلكا وفرت لها أغلب الأسباب التي تؤدي إلى قيام حضارة متميزة فيها.
أما أهم اكتشافات هذه الجزيرة في هذا العصر – من وجهة نظري – فتتمثل في: قاعدة الإناء المصنوعة من الإستياتايت المرسوم عليها بالنقش سمكة وأقدام رجل وأجزاء من ملابسه، وأيضاً الشقفة المنقوش عليها رسم ثورين بينهما سنبلة قمح وقرص الشمس فوقها، وأخيراً مجموعة الشقفات الفخارية المنقوش عليها رسم أشخاص وحيوانات من العصر البرونزي. وأهمية هذه القطع تتمثل في تطور فنون الرسم والنقش في هذا العصر، وهذه المقتنيات من الممكن الاستفادة منها في تاريخ الفنون عبر العصور، بعد دراستها دراسة متأنية من قبل المتخصصين.
العصر الهلنستي
الاكتشافات الحديثة أثبتت أيضاً أن جزيرة فيلكا لم تكن مزدهرة فقط في العصر البرونزي، بل كانت مزدهرة أيضاً في العصر الهلنستي (330-150 ق.م)، المحدد بفترة ما بين فتح الإسكندر الأكبر لبلاد فارس حتى سقوط الأمبراطورية الإغريقية، وسُميت بالهلنستية للتفريق بينها وبين الحضارة الهيلينية. وقد اختلف المؤرخون في تعريف الهلنستية، حيث اعتبرها البعض حضارة جديدة مختلطة من عناصر إغريقية وشرقية، واعتبرها البعض الآخر استمراراً للحضارة اليونانية في الشرق. وما يهمنا في هذا الشأن أن الكويت بصفة خاصة، ومنطقة الخليج العربي بصفة عامة، امتزج تاريخها بتاريخ العصر الهلنستي، عندما أبعد الإسكندر الأكبر سيطرة الفرس عن منطقة الخليج العربي، وأصبحت جزر (فيلكا وعكاز وأم النمل) – في الكويت - ضمن أمبراطوريته.
والطريف أن أول أثر عُثر عليه في هذه الجزيرة كان أثراً هلنستياً، وعُثر عليه بمحض الصدفة عام 1937م، وهو (حجر سوتيلوس) ومكتوب عليه هذه العبارة: "سوتيلوس المواطن الأثيني والجنود قدموا هذا إلى زوس سوتير المخلص وإلى بوسيدون وإلى أرتميس المخلصة". وهذا الحجر يُعتقد بأنه لوحة تذكارية وُضعت على باب أحد المعابد التي شُيدت في الكويت. ومن مكتشفات جزيرة فيلكا في هذا العصر أيضاً: تمثال لدلفين من الحجر الجيري، وتمثال من الطين لهرقل يمسك أسداً بيده، وتمثال لرأس الإسكندر الأكبر، وشقفة فخارية بها رسم بارز لرجل بجناحين راكباً على فرس، وتمثال لرأس رجل ملتحٍ من الحجر الرملي، وتمثال لفارس أثيني مرتدياً العباءة، وتمثال نصفي لفتاة إغريقية، ومباخر من الطين على شكل أشخاص، ومجموعة من الأسرجة الفخارية والبرونزية، ورأس رمح من العظم، ومجموعة من الجرار والأواني الفخارية المتنوعة. هذا بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من النقود التي تعود إلى العصر البرونزي، ومنها على سبيل المثال: عملات فضية فئة الأربعة دراخمة، وعملة برونزية تعود إلى الملك (أنتيوخوس الثالث).
أما جزيرة عكاز الكويتية فكانت متألقة في العصر البارثي الساساني (248 ق.م – 637م)، بناءً على المكتشفات التي تمت بها، ويعود تاريخها إلى هذا العصر، ومنها: تمثال من الطين لملك جالس على عرشه، ومجموعة من الشقفات الفخارية المكتوب عليها بعض العبارات بحروف لإحدى اللغات المندثرة، والجرار الفخارية المزخرفة هندسياً، والفخار المدموغ والمزجج، والأثقال الحجرية أسطوانية الشكل.