الخميس، 1 سبتمبر 2011

رمضان في رحلات ابن بطوطة

رمضان في رحلات ابن بطوطة
د.سيد علي إسماعيل
ـــــــ
في أحد أيام سنة 1353م، دخل مدينة (فاس) رجل في الخمسين من عمره، وأخذ يقصُّ على الناس أخبار رحلته إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومشاهدة قبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وما صاحب هذه الرحلة – التي استغرقت ربع قرن تقريباً - من مشاهداته في طول البلاد الإسلامية النائية وعرضها؛ تلك البلاد التي لم يسمع بها أغلب مستمعيه، فأصابهم هذا الضيف بدهشة كبيرة بما ألقاه عليهم من قصص وحكايات بما فيها من غرائب وطرائف. وعندما انفض الناس عنه، نقلوا ما سمعوه، فاشتهر أمر هذا الرجل، وانقسم الناس بين مُصدّق لأقواله ومُكذّب لها. هذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي (نسبة إلى مدينة طنجة، التي وُلد بها عام 1304م)، المعروف باسم (ابن بطوطة).
ويشاء القدر أن العلامة المؤرخ (ابن خلدون) كان من معاصري ابن بطوطة، وقد سمع بأخبار رحلته فأنكرها، وانضم إلى معسكر المكذبين لقصصه وطرائفه، وقد أثبت ذلك في تاريخه قائلاً: " ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يُعرف بابن بطوطة، كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق، وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند، وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد، وهو فيروز جوه. وكان له منه مكان واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله، ثم انتقل إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان، وكان يحدث عن شأن رحلته، وما رأى من العجائب بممالك الأرض. وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون ...... ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه، فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره".
وهكذا رسخت أخبار رحلة ابن بطوطة في عقول الناس ووجدانهم، لا سيما سلطان فاس نفسه، فأمر كاتبه (محمد بن محمد بن جزي الكلبي) بتدوين تفاصيل هذه الرحلة، وأسماها (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب السفار) في سبعة كراريس – وقد طُبعت حديثاً في مجلدين - وهي الرحلة التي اشتهرت في الآفاق، وأصبحت نموذجاً فريداً لأدب الرحلات الإسلامية في التاريخ، وأُطلق على ابن بطوطة لقب أمير الرحالة المسلمين. ورحلة ابن بطوطة تناولها بالدراسة والبحث والتحقيق كل متخصص في هذا المجال؛ ولا أظن – تبعاً لما بيد يدي من مراجع – أن باحثاً أو كاتباً خصص عملاً منفرداً للحديث عن مظاهر شهر رمضان في رحلات ابن بطوطة!
بدأ ابن بطوطة رحلته وهو في سن الثانية والعشرين من طنجة – مسقط رأسه - يوم الخميس الثاني من شهر رجب سنة 725 هجرية، الموافق 21/6/1325م، ووصل إلى مدينة تلمسان، ثم مليانة، ثم الجزائر، ثم بجاية، ثم قسنطينة، ثم بونة، ثم تونس، ثم سوسة، ثم صفاقص، ثم قابس، ثم طرابلس، ثم الإسكندرية. وكان ابن بطوطة يصف كل مدينة أو قرية بما فيها من مظاهر اجتماعية وآثار لافتة للنظر، ناهيك عن وصفه للمساجد والأضرحة والمزارات والمدارس .. إلخ. فعلى سبيل المثال عندما زار الإسكندرية في مصر، لفت نظره (عمود السواري)، فوصفه قائلاً: "ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المُسمى عندهم بعمود السواري، وهو متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سمواً وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة، ولا تعرف كيفية وضعه هنالك، ولا يتحقق من وضعه ".
هلال رمضان في مدينة أبيار
انتقل ابن بطوطة من الإسكندرية قاصداً القاهرة، وهذا التنقل استلزم المرور بعدة مدن وقُرى، منها: قرية (تَرَوَجة)، ومنها إلى مدينة (دمنهور)، ثم (فَوَّا) ثم (النَحرارية)، ومنها إلى مدينة (أَبْيار). وهذه المدينة كما وصفها ابن بطوطة " قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة المساجد، ذات حسن زائد، وهي بمقربة من النحرارية. ويفصل بينهما النيل". كما تحدث ابن بطوطة عن أهم صناعة في هذه المدينة، وهي صناعة الملابس، وهي ملابس قيمة جداً وتكتسب شهرة فائقة عند بيعها في الشام والعراق، ورغم قيمتها هذه فهي – أي الملابس – لا تلق اعتباراً أو قيمة عند أهل مدينة أبيار نفسها!!
ومن الثابت – تبعاً لما جاء في رحلات ابن بطوطة – أن أغلب حكام البلاد وأمرائها وأعيانها، كانوا يستقبلونه أحسن استقبال، ويكرمونه أفضل تكريم، وأغلبهم كانوا يستضيفونه في منازلهم. ومن هذا المنطلق زار ابن بطوطة قاضي مدينة أبيار (عز الدين المليجي الشافعي)، وتصادف أن الزيارة كانت يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، أي (يوم الركبة) كما أسماه الرحالة، أو (يوم ارتقاب هلال رمضان) كما يسمونه أهالي أبيار، ومن عادة الأهالي في هذه المدينة - في مثل هذا اليوم من كل عام، كما قال ابن بطوطة: اجتماع " فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين، فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك، ركب القاضي وركب من معه أجمعين، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة".
والوصف الذي جاء به ابن بطوطة لاستطلاع هلال رمضان في مدينة أبيار، هو وصف طريف لم نجده – ولم نقرأه بهذا الوصف الدقيق – في كتب الرحالة عن استطلاع هلال رمضان في أية مدينة من المدن المصرية أو قُراها. وهذا يدل على أن ابن بطوطة كان يسرد في قصصه الغريب الطريف غير المألوف من عادات الشعوب. ولنا أن نتصور مدينة بأكملها يسير أهلها ليلاً بشموع مضاءة وبفوانيس متلألأة، وجميع حوانيتها مضاءة بالشموع .. منظر خلاب استحق التدوين في رحلات ابن بطوطة.
قُوْص ملجأ الفقراء في رمضان
تبعاً لخطة سير ابن بطوطة في رحلته، وجدناه يتوجه من مدينة أبيار إلى مدينة المحلة الكبيرة، ثم البرلس، ثم دمياط، وفارسكور، وأشمون الرمان، وسمنود حتى وصل إلى القاهرة. ومن القاهرة واصل رحلته إلى صعيد مصر من خلال مدنها وقُراها، ومنها: منية القائد، وبوش، ودلاص، وبِبا، والبهنسا، ومنية ابن خصيب (محافظة المنيا حالياً)، ومَنْلَوِي (وتنطق حالياً ملوي)، ومنفلوط، وأسيوط، وأخميم، وقنا حتى وصل إلى مدينة (قُوص).
ويصف ابن بطوطة مدينة (قوص) بأنها " مدينة عظيمة لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة، وأسواقها مونقة، ولها المساجد الكثيرة، والمدارسة الأثيرة، وهي منزل ولاة الصعيد". كما تطرق إلى ما بها من زوايا وأضرحة للمشايخ والصوفية، مثل زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار، وزاوية الأفرم. وفي ظني أن ابن بطوطة زار هذه المدينة في شهر رمضان؛ وذلك على الرغم من عدم ذكره لتاريخ الزيارة بصورة محددة، والسبب في ذلك أنه قال عن هذه المدينة : " وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة". وهذه العبارة تدل على أنه شاهد بنفسه جموع الفقراء في هذه المدينة في شهر رمضان، أو أنه – على أقل تقدير – سمع بذلك، وهذا السمع يدل بجلاء أن هذه المدينة مشهورة باجتماع الفقراء المحتاجين في هذا الشهر الكريم.
وربما يظن القارئ – خطأً – أن ابن بطوطة يقصد بأن هذه المدينة فقيرة وأن الفقر سمة أهلها!! والحقيقة أن العكس هو الصحيح، فالرحالة يقصد أن هذه المدينة هي ملجأ الفقراء المحتاجين في شهر رمضان، وذلك لثراء أهلها، وتسابقهم على فعل الخير، لا سيما التصدق على الفقراء والمساكين، وإطعامهم في هذا الشهر الكريم. وهذا الأمر أكده ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)، عندما تحدث عن هذه المدينة، فوصفها بأنها "مدينة كبيرة عظيمة واسعة ... وأهلها أرباب ثروة واسعة".
الإفطار الجماعي في دمشق
بدأ ابن بطوطة رحلته إلى بلاد الشام في منتصف شهر شعبان سنة 726 هجرية، الموافق شهر يوليو 1326م. أما مدينة دمشق فدخلها يوم الخميس التاسع من شهر رمضان في العام نفسه، ونزل في مدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية. وقد أسهب رحالتنا في وصف معالم دمشق، ومنها: الجامع الأموي، ومدارس دمشق، وأبواب دمشق، ومشاهدها ومزاراتها وأرباضها، وجبل قاسيون ومشاهده المباركة ... إلخ، ولفت نظر ابن بطوطة إحدى فضائل أهل دمشق في رمضان، وهي عدم الإفطار بصورة منفردة، بل يجب الإفطار في رمضان في جماعة، قائلاً: " ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء، فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن كان من التجار وكبار السوقة صنع مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية فأنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعاً ". وهذا الوصف لإفطار أهل دمشق في رمضان يعكس لنا مدى ترابطهم الاجتماعي في ظل تعاليم الإسلام، ومدى تمسكهم بالروح الدينية.
ثم نجد ابن بطوطة يسرد حكاية - كان هو بطلها - كدليل على هذه الفضيلة عند أهل دمشق، قائلاً: " ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي - مدرس المالكية - صحبة فرغب مني أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليالٍ، ثم أصابتني الحمى فغبت عنه، فبعث في طلبي، فاعتذرت بالمرض، فلم يسعني عذراً فرجعت إليه وبت عنده فلما أردت الانصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي: أحسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك، وأمرّ بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غذاء، وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد، وحضرت المصلى وشفاني الله تعالى مما أصابني".
رمضان في مكة
دخل ابن بطوطة مكة لأول مرة في عهد الشريفين الأخوين أسد الدين، وسيف الدين، وهما من أبناء الأمير أبي سعد بن علي بن قتادة، وكانت مكة تحت إمارة عجلان وهو أمير مكة في هذا العهد. ومكة هي الهدف الأسمى لرحلة ابن بطوطة؛ لذلك احتلت جزءاً كبيراً من وصف رحلته. وما يهمنا من هذا الوصف ما يتعلق بشهر رمضان المعظم.
بدأ ابن بطوطة وصف رمضان في مكة بظهور الهلال، حيث تُضرب الطبول عند أمير مكة، ويبدأ الاحتفال بالشهر الكريم في المسجد الحرام، وذلك بتجديد حُصره (أبسطته)، والإكثار من إضاءة الشموع ووضع المشاعل، فيتلألأ الحرم المكي بصورة مبهجة للنفوس. ثم يقوم قُراء الفرق الأربعة (الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية) بقراءة القرآن والصلاة، "فيرتج المسجد لأصوات القُراء". وقد خصّ ابن بطوطة الشافعية بقسط وافر من وصف عاداتهم الدينية في هذا الشهر الكريم داخل الحرم المكي، قائلاً: "والشافعية أكثر الأئمة اجتهاداً، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته. فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة – [ وهي: عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه ] - إعلاماً بالعودة إلى الصلاة. ثم يصلي ركعتين، ثم يطوف أسبوعاً هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى. ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون".
وتطرق ابن بطوطة - في حديثه عن رمضان داخل مكة – إلى الحديث عن سحور رمضان؛ فأبان أن المؤذن الزمزمي هو المتولي توقيت السحور في صومعته؛ حيث يقوم بالدعاء والذكر والتحريض على السحور، فيتبعه كل أصحاب الصوامع داخل الحرم، "وقد نُصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض، قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان. ولديار مكة شرفها الله سطوح. فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر. حتى إذا لم يبصرها أقلع عن الأكل".
ومن الملاحظ أن العشر الأواخر من شهر رمضان – لما لها من قيمة دينية وروحانية في نفوس المسلمين – نالت التقدير الوصفي من الرحالة؛ فأسهب في وصفها بصورة تفصيلية دقيقة، قائلاً: " وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء. ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. وأعظم من تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي. ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم. وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام، توصل بالحطيم، وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يغشى الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم الإمام، فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر. وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيماً لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم خطيباً مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجميع. ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب".
ثريد أكريدور
زار ابن بطوطة مدينة (أنطاليا) – المعروفة في بلاد السلاجقة باسم (أضاليا) - وما حولها من مدن وقُرى في الفترة ما بين عامي (1335 – 1340م)، فتحدث أولاً عن سلطان أنطاليا خضر بك ابن يونس بك، ثم انتقل إلى بلدة (بُرْدُور)  ووصف بساتينها وأنهارها وقلعتها الموجودة في رأس جبلها الشاهق. ثم انتقل إلى بلدة (سَبرْتَا)  ووصف قلعتها وبستانها الشهير، ومن ثم انتقل إلى (مدينة أَكْرِيدوُر) ووصفها قائلاً: " مدينة عظيمة كثيرة العمارة حسنة الأسواق ذات أنهار وبساتين، ولها بحيرة عذبة الماء".
أما سلطان أكريدور فهو (أبو إسحاق بك ابن الدندار بك)، وصفه ابن بطوطة بأنه من كبار سلاطين تلك البلاد، وأنه سكن ديار مصر أيام أبيه وحج. ومن عادة هذا السلطان أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع، فإذا قضيت صلاة العصر استند إلى جدار القبلة، وأجلس القُراء بين يديه على مصطبة خشب عالية، فقرأوا بعض سور القرآن الكريم، وبالأخص سورة الفتح والمُلك وعَمّ. وقد تحدث ابن بطوطة عن عادة هذا السلطان في رمضان، قائلاً: "وأظلنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كل يوم ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير، ويستند إلى مخدة كبيرة، ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه، وأجلس إلى جانب الفقيه ويلينا أرباب دولته أمراء حضرته ثم يؤتى بالطعام، فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في قحفة صغيرة، عليه العدس مسقي بالسمن والسكر، ويقدمون الثريد تبركاً، ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم فضّله على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له ثم يؤتى بسائر الأطعمة وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان".
وهذا القول يعكس مدى تمسك أهل المدينة – وسلطانها – بالسُنة النبوية، لا سيما حديث الرسول صلى الله وعليه وسلم " كمل من الرجال كثير. ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون. وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
منع الحلواء في رمضان
زار ابن بطوطة بلاد الأتراك في شهر رمضان، فتحدث عن أمور طريفة وغريبة من حيث المأكل والمشرب. فعلى سبيل المثال – كما أبان الرحالة - أن الشعوب التركية أكثر شعوب العالم أكلاً للحوم الخيل!! كما أنهم لا يأكلوم الخبز ولا الطعام الغليظ! و "يرون أكل الحلواء عيباً". وهذا القول يُعدّ من الطرائف! فالمشهور أن الحلواء – بجميع أنواعها وأشكالها - من الأطعمة المشهورة في موائد الإفطار والسحور في شهر رمضان عند الشعوب الإسلامية كافة. وربما ظنّ ابن بطوطة أن المستمع لهذه الطرفة سيصاب بالدهشة؛ لذلك أكد أقواله بقصتين، قال في الأولى : " ولقد حضرت يوماً عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم .... وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي فقدمتها بين يديه فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه، ولم يزد على ذلك". أي أنه لم يأكل من الحلواء مكتفياً بتذوقه بطرف إصبعه!! وقال ابن بطوطة في قصته الأخرى: " أخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده، وأولاد أولاده نحو أربعين ولداً، قال له السلطان يوماً: كل الحلواء وأعتقكم جميعاً، فأبى وقال: لو قتلتني ما أكلتها".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق